فصل: تفسير الآيات رقم (75- 86)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَآء أَهْلُ المدينة‏}‏ سدوم‏.‏ ‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ بأضياف لوط طمعاً فيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ‏}‏ بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ في ركوب الفاحشة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُخْزُونِ‏}‏ ولا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان، أو لا تخجلوني فيهم من الخزاية وهو الحياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين‏}‏ على أن تجير منهم أحداً أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل احد وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه، أو عن ضيافة الناس وإنزالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى‏}‏ يعني نساء القوم فإن نبي كل أُمة بمنزلة أبيهم، وفيه وجوه ذكرت في سورة «هود»‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ قضاء الوطر أو ما أقول لكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏لَعَمْرُكَ‏}‏ قسم بحياة المخاطب والمخاطب في هذا القسم هو النبي عليه الصلاة والسلام وقيل لوط عليه السلام قالت الملائكة له ذلك، والتقدير لعمرك قسمي، وهو لغة في العمر يختص به القسم لإِيثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على ألسنتهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ‏}‏ لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم‏.‏ ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ يتحيرون فكيف يسمعون نصحك‏.‏ وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة‏}‏ يعني صيحة هائلة مهلكة‏.‏ وقيل صيحة جبريل عليه السلام‏.‏ ‏{‏مُشْرِقِينَ‏}‏ داخلين في وقت شروق الشمس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏فَجَعَلْنَا عاليها‏}‏ عالي المدينة أو عالي قراهم‏.‏ ‏{‏سَافِلَهَا‏}‏ وصارت منقلبة بهم‏.‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ‏}‏ من طين متحجر أو طين عليه كتاب من السجل، وقد تقدم مزيد بيان لهذه القصة في سورة «هود»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 86‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ للمتفكرين المتفرسين الذين يتشبثون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته‏.‏

‏{‏وَإِنَّهَا‏}‏ وإن المدينة أو القرى‏.‏ ‏{‏لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ‏}‏ ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ بالله ورسله‏.‏

‏{‏وَإِن كَانَ أصحاب الأيكة لظالمين‏}‏ هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة فبعثه الله إليهم فكذبوه فأهلكوا بالظلة، و‏{‏الأَيكة‏}‏ الشجرة المتكاثفة‏.‏

‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ بالإِهلاك‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُمَا‏}‏ يعني سدوم والأيكة‏.‏ وقيل الأيكة ومدين فإنه كان مبعوثاً إليهما فكان ذكر إحداهما منبهاً على الأخرى‏.‏ ‏{‏لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏ لبطريق واضح، والإِمام اسم ما يؤتم به فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح لأنها مما يؤتم به‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين‏}‏ يعني ثمود كذبوا صالحاً ومن كذب واحداً من الرسل فكأنما كذب الجميع، ويجوز أن يكون المراد بالمرسلين صالحاً ومن معه من المؤمنين، و‏{‏الحجر‏}‏ واد بين المدينة والشأم يسكنونه‏.‏

‏{‏وءاتيناهم ءاياتنا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ يعني آيات الكتاب المنزل على نبيهم، أو معجزاته كالناقة وسقيها وشربها ودرها، أو ما نصب لهم من الأدلة‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا ءَامِنِينَ‏}‏ من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها، أو من العذاب لفرط غفلتهم أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه‏.‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق‏}‏ إلا خلقاً ملتبساً بالحق لا يلائم استمرار الفساد ودوام الشرور، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء وإزاحة فسادهم من الأرض‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ‏}‏ فينتقم الله لك فيها ممن كذبك‏.‏ ‏{‏فاصفح الصفح الجميل‏}‏ ولا تعجل بانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم‏.‏ وقيل هو منسوخ بآية السيف‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق‏}‏ الذي خلقك وخلقهم وبيده أمرك وأمرهم‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم، أو هو الذي خلقكم وعلم الأصلح لكم، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح، وفي مصحف عثمان وأبَيِّ رضي الله عنهما هو «الخالق»، وهو يصلح للقليل والكثير و‏{‏الخلاق‏}‏ يختص بالكثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا‏}‏ سبع آيات وهي الفاتحة‏.‏ وقيل سبع سور وهي الطوال وسابعتها «الأنفال» و«التوبة» فإنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية‏.‏ وقيل «التوبة» وقيل «يونس» أو الحواميم السبع‏.‏ وقيل سبع صحائف وهي الأسباع‏.‏ ‏{‏مِّنَ المثاني‏}‏ بيان للسبع والمثاني من التثنية، أو الثناء فإن كل ذلك مثنى تكرر قراءته، أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه أو مشى عليه بالبلاغة والاعجاز، أو مثن على الله بما هو أهله من صفاته العظمى وأسمائه الحسنى، ويجوز أن يراد ب ‏{‏المثاني‏}‏ القرآن أو كتب الله كلها فتكون ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض‏.‏ ‏{‏وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ‏}‏ إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص، وإن أريد به الأسباغ فمن عطف أحد الوصفين على الآخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ لا تطمح ببصرك طموح راغب‏.‏ ‏{‏إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ‏}‏ أصنافاً من الكفار، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات‏.‏ وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه ‏"‏ من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيرا ‏"‏ وروي «أنه عليه الصلاة والسلام وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون‏:‏ لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقال لهم‏:‏ ‏"‏ لقد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع ‏"‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أنهم لم يؤمنوا‏.‏ وقيل إنهم المتمتعون به‏.‏ ‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وتواضع لهم وارفق بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْ إِنِّى أَنَا النذير المبين‏}‏ أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين‏}‏ مثل العذاب الذي أنزلناه عليهم، فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه والمقتسمون هم الإثنا عشر الذين اقتسموا أي تقاسموا مداخل مكة أيام الموسم لينفروا الناس عن الإِيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر أو الرهط الذين اقتسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه الصلاة والسلام وقيل هو صفة مصدر محذوف يدل عليه‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك‏}‏ فإنه بمعنى أنزلنا إليك، والمقتسمون هم الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا عناداً‏:‏ بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين، أو أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أن القرآن ما يقرؤون من كتبهم، فيكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ الخ اعتراضاً ممداً لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ‏}‏ أجزاء جمع عضة، وأصلها عضوة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء‏.‏ وقيل فعلة من عضهته إذا بهته، وفي الحديث «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة» وقيل أسحاراً وعن عكرمة العضة السحر، وإنما جمع جمع السلامة جبراً لما حذف منه والموصول بصلته صفة للمقتسمين أو مبتدأ خبره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 99‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ من التقسيم أو النسب إلى السحر فنجازيهم عليه‏.‏ وقيل هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي‏.‏

‏{‏فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ‏}‏ فاجهر به، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً، أو فافرق به بين الحق والباطل، وأصله الإِبانة والتمييز وما مصدرية أو موصولة، والراجع محذوف أي بما تؤمر به من الشرائع‏.‏ ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين‏}‏ ولا تلتفت إلى ما يقولون‏.‏

‏{‏إِنَّا كفيناك المستهزءين‏}‏ بقمعهم وإهلاكهم‏.‏ قيل كانوا خمسة من أشراف قريش‏:‏ الوليد بن المغيرة، والعاص ابن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظماً لاخذه، فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحاً فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، وإلى عيني الأسود ابن المطلب فعمي‏.‏

‏{‏الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ عاقبة أمرهم في الدارين‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ من الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء بك‏.‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ‏}‏ فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد يكفك ويكشف الغم عنك، أو فنزهه عما يقولون حامداً له على أن هداك للحق‏.‏ ‏{‏وَكُنْ مِّنَ الساجدين‏}‏ من المصلين، وعنه عليه الصلاة والسلام «أنه كان إذا حَزبه أمر فزع إلى الصلاة» ‏{‏واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين‏}‏ أي الموت فإنه متيقن لحاقه كل حي مخلوق، والمعنى فاعبده ما دمت حياً ولا تخلّ بالعبادة لحظة‏.‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم» والله أعلم‏.‏

سورة النحل

مكية غير ثلاث آيات في آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قيام الساعة، أو إهلاك الله تعالى إياهم كما فعل يوم بدر استهزاءً وتكذيباً، ويقولون إن صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت، والمعنى أن الأمر الموعود به بمنزلة الآتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه‏.‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ تبرأ وجل عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على وفق قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ والباقون بالياء على تلوين الخطاب، أو على أن الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم، لما روي أنه لما نزلت أتى أمر الله فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏يُنَزّلُ الملائكة بالروح‏}‏ بالوحي أو القرآن، فإنه يحيي به القلوب الميتة بالجهل، أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، وذكره عقيب ذلك إشارة إلى الطريق الذي به علم الرسول صلى الله عليه وسلم ما تحقق موعدهم به ودنوه وإزاحة لاستبعادهم اختصاصه بالعلم به‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ من أنزل، وعن يعقوب مثله وعنه «تنزل» بمعنى تتنزل‏.‏ وقرأ أبو بكر «تنزل» على المضارع المبني للمفعول من التنزيل‏.‏ ‏{‏مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ بأمره أو من أجله‏.‏ ‏{‏على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أن يتخذه رسولاً‏.‏ ‏{‏أَنْ أَنْذِرُواْ‏}‏ بأن أنذروا أي اعلموا من نذرت بكذا إذا علمته‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فاتقون‏}‏ أن الشأن ‏{‏لا إله إِلا أَنَاْ فاتقون‏}‏، أو خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأنه ‏{‏لا إله إِلا أَنَاْ‏}‏ وقوله ‏{‏فاتقون‏}‏ رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود، و‏{‏أَن‏}‏ مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الدال على القول، أو مصدرية في موضع الجر بدلاً من الروح أو النصب بنزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة‏.‏ والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة وأن حاصله التنبيه على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية‏.‏ وأن النبوة عطائية والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريك لقدر على ذلك فيلزم التمانع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَ السموات والأرض بالحق‏}‏ أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها وخصصها بحكمته‏.‏ ‏{‏تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ منهما أو مما يفتقر في وجوده أو بقائه إليهما ومما لا يقدر على خلقهما‏.‏ وفيه دليل على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 16‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ جماد لا حس بها ولا حراك سيالة لا تحفظ الوضع والشكل‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ‏}‏ منطيق مجادل‏.‏ ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ للحجة أو خصيم مكافح لخالقه قائل‏:‏ ‏{‏مِنْ يحيى العظام وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ روي أن أُبَي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال‏:‏ يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمَّ‏.‏ فنزلت‏.‏

‏{‏والأنعام‏}‏ الإِبل والبقر والغنم وانتصابها بمضمر يفسره‏.‏ ‏{‏خَلَقَهَا لَكُمْ‏}‏ أو بالعطف على الإِنسان، وخلقها لكم بيان ما خلقت لأجله وما بعده تفصيل له‏.‏ ‏{‏فِيهَا دِفْءٌ‏}‏ ما يدفأ به فيقي البرد‏.‏ ‏{‏ومنافع‏}‏ نسلها ودرها وظهورها، وإنما عبر عنها بالمنافع ليتناول عوضها‏.‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، أو لأن الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش، وأما الأكل من سائر الحيوانات المأكولة فعلى سبيل التداوي أو التفكه‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ‏}‏ زينة‏.‏ ‏{‏حِينَ تُرِيحُونَ‏}‏ تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي‏.‏ ‏{‏وَحِينَ تَسْرَحُونَ‏}‏ تخرجونها بالغداة إلى المراعي فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها، وتقديم الاراحة لأن الجمال فيها أظهر فإنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها‏.‏ وقرئ «حيناً» على أن ‏{‏تُرِيحُونَ‏}‏ ‏{‏وتسرحون‏}‏ وصفان له بمعنى ‏{‏تُرِيحُونَ‏}‏ فيه ‏{‏وتسرحون‏}‏ فيه‏.‏

‏{‏وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ‏}‏ أحمالكم‏.‏ ‏{‏إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه‏}‏ أي إن لم تكن الأنعام ولم تخلق فضلاً أن تحملوها على ظهوركم إليه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس‏}‏ إلا بكلفة ومشقة‏.‏ وقرئ بالفتح وهو لغة فيه‏.‏ وقيل المفتوح مصدر شق الأمر عليه وأصله الصدع والمكسور بمعنى النصف، كأنه ذهب نصف قوته بالتعب‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم وتيسير الأمر عليكم‏.‏

‏{‏والخيل والبغال والحمير‏}‏ عطف على ‏{‏الأنعام‏}‏‏.‏ ‏{‏لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ أي لتركبوها وتتزينوا بها زينة‏.‏ وقيل هي معطوفة على محل ‏{‏لِتَرْكَبُوهَا‏}‏ وتغيير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله، ولأن المقصود مِنْ خَلْقِهَا الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض‏.‏ وقرئ بغير واو وعلى هذا يحتمل أن يكون علة ‏{‏لِتَرْكَبُوهَا‏}‏ أو مصدراً في موضع الحال من أحد الضميرين أي‏:‏ متزينين أو متزيناً بها، واستدل به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالباً أن لا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية وعامة المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر‏.‏ ‏{‏وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ لما فصل الحيوانات التي يحتاج إليها غالباً احتياجاً ضرورياً أو غير ضروري أجمل غيرها، ويجوز أن يكون إخباراً بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، وأن يراد به ما خلق في الجنة والنار مما لم يخطر على قلب بشر‏.‏

‏{‏وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل‏}‏ بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحق، أو إقامة السبيل وتعديلها رحمة وفضلاً، أو عليه قصد السبيل يصل إليه من يسلكه لا محالة يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه، والمراد من ‏{‏السبيل‏}‏ الجنس ولذلك أضاف إليه ال ‏{‏قَصْدُ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا جَائِرٌ‏}‏ حائد عن القصد أو عن الله، وتغيير الأسلوب لأنه ليس بحق على الله تعالى أن يبين طرق الضلالة، أو لأن المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض‏.‏ وقرئ و«منكم جائر» أي عن القصد‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء‏}‏ الله‏.‏ ‏{‏لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء‏.‏

‏{‏هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء‏}‏ من السحاب أو من جانب السماء‏.‏ ‏{‏مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ‏}‏ ما تشربونه، ‏{‏وَلَكُمْ‏}‏ صلة ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ أو خبر ‏{‏شَرَابٌ‏}‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية متعلقة به، وتقديمها يوهم حصر المشروب فيه ولا بأس به لأن مياه العيون والآبار منه لقوله‏:‏ ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض‏}‏ ‏{‏وَمِنْهُ شَجَرٌ‏}‏ ومنه يكون شجر يعني الشجر الذي ترعاه المواشي‏.‏ وقيل كل ما نبت على الأرض شجر قال‏:‏

يَعْلِفُهَا اللَّحْمَ إِذَا عَزَّ الشَّجَر *** وَالخَيْلُ فِي إِطْعَامِهَا اللَّحْم ضَرَر

‏{‏فِيهِ تُسِيمُونَ‏}‏ ترعون، من سامت الماشية وأسامها صاحبها، وأصله السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات‏.‏

‏{‏يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع‏}‏ وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم‏.‏ ‏{‏والزيتون والنخيل والاعناب وَمِن كُلّ الثمرات‏}‏ وبعض كلها إذا لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار، ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاء حيوانياً هو أشرف الأغذية، ومن هذا تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ على وجود الصانع وحكمته، فإن من تأمل أن الحبة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجرة، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها‏.‏ ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطباع مع اتحاد المواد ونسبة الطبائع السفلية والتأثيرات الفلكية إلى الكل، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ولعل فصل الآية به لذلك‏.‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم‏}‏ بأن هيأها لمنافعكم‏.‏ ‏{‏مسخرات بِأَمْرِهِ‏}‏ حال من الجميع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لله تعالى خلقها ودبرها كيف شاء، أو لما خلقن له بإيجاده وتقديره أو لحكمه، وفيه إيذان بالجواب عما عسى أن يقال إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها، فإن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها أيضاً ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجود المحتملة، فلا بد لها من موجد مخصص مختار واجب الوجود دفعاً للدور والتسلسل، أو مصدر ميمي جمع لاختلاف الأنواع‏.‏

وقرأ حفص ‏{‏والنجوم مسخرات‏}‏ على الابتداء والخبر فيكون تعميماً للحكم بعد تخصيصه ورفع ابن عامر ‏{‏الشمس والقمر‏}‏ أيضاً‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ جمع الآية، وذكر العقل لأنها تدل أنواعاً من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة غير محوجة إلى استيفاء فكر كأحوال النبات‏.‏

‏{‏وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض‏}‏ عطف على ‏{‏اليل‏}‏، أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات‏.‏ ‏{‏مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ‏}‏ أصنافه فإنها تتخالف باللون غالباً‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ إن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر‏}‏ جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص‏.‏ ‏{‏لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّاً‏}‏ هو السمك، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله، ولإِظهار قدرته في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق، وتمسك به مالك والثوري على أن من حلف أن لا يأكل لحماً حنث بأكل السمك‏.‏ وأجيب عنه بأن مبنى الإِيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإِطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه‏.‏ ‏{‏وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏ كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم، فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم‏.‏ ‏{‏وَتَرَى الفلك‏}‏ السفن‏.‏ ‏{‏مَوَاخِرَ فِيهِ‏}‏ جواري فيه تشقه بحيزومها، من المخر وهو شق الماء‏.‏ وقيل صوت جري الفلك‏.‏ ‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ من سعة رزقه بركوبها للتجارة‏.‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها، ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل المهالك سبباً للانتفاع وتحصيل المعاش‏.‏

‏{‏وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ‏}‏ جبالاً رواسي‏.‏ ‏{‏أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ كراهة أن تميل بكم وتضطرب، وذلك لأن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك، أو أن تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة‏.‏ وقيل لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة‏:‏ ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال‏.‏ ‏{‏وأنهارا‏}‏ وجعل فيها أنهاراً لأن ألقى فيه معناه‏.‏ ‏{‏وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ لمقاصدكم، أو إلى معرفة الله سبحانه وتعالى‏.‏

‏{‏وعلامات‏}‏ معالم يستدل بها السابلة من جبل وسهل وريح ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ بالليل في البراري والبحار، والمراد بالنجم الجنس ويدل عليه قراءة «وبالنجم» بضمتين وضمة وسكون على الجمع‏.‏ وقيل الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي، ولعل الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص كأنه قيل‏:‏ وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون، فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ إنكار بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرد بخلق ما عدد من مبدعاته لأن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك بل على إيجاد شيء ما، وكان حق الكلام أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنه عكس تنبيهاً على أنهم بالإشراك بالله سبحانه وتعالى جعلوه من جنس المخلوقات العجزة شبيهاً بها، والمراد بمن لا يخلق كل ما عبد من دون الله سبحانه وتعالى مغلباً فيه أولو العلم منهم أو الأصنام، وأجروها مجرى أولي العلم لأنهم سموها آلهة ومن حق الإِله أن يعلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق أو للمبالغة وكأنه قيل‏:‏ إن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده، ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ فتعرفوا فساد ذلك فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ لا تضبطوا عددها فضلاً أن يطيقوا القيام بشكرها، أتبع ذلك تعداد النعم وإلزام الحجة على تفرده باستحقاق العبادة تنبيهاً على أن وراء ما عَدَّدَ نعماً لا تنحصر، وأن حق عبادته تعالى غير مقدور‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لَغَفُورٌ‏}‏ حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها‏.‏ ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ لا يقطعها لتفريطكم فيه ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار العلم بعد تزييفه باعتبار القدرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي والآلهة الذين تعبدونهم من دونه‏.‏ وقرأ أبو بكر «يدعون» بالياء‏.‏ وقرأ حفص ثلاثتها بالياء‏.‏ ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا‏}‏ لما نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق بين أنهم لا يخلقون شيئاً لينتج أنهم لا يشاركونه، ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافي الألوهية فقال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ لأنهم ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق، والإِله ينبغي أن يكون واجب الوجود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْوَاتٌ‏}‏ هم أموات لا تعتريهم الحياة، أو أموات حالاً أو مآلاً‏.‏ ‏{‏غَيْرُ أَحْيَاء‏}‏ بالذات ليتناول كل معبود، والإِله ينبغي أن يكون حياً بالذات لا يعتريه الممات‏.‏ ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ولا يعلمون وقت بعثهم، أو بعث عبدتهم فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم، والإِله ينبغي أن يكون عالماً بالغيوب مقدراً للثواب والعقاب، وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏ تكرير للمدعى بعد إقامة الحجج‏.‏ ‏{‏فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏‏.‏ بيان لما اقتضى إصرارهم بعد وضوح الحق وذلك عدم إيمانهم بالآخرة، فإن المؤمن بها يكون طالباً للدلائل متأملاً فيما يسمع فينتفع به، والكافر بها يكون حاله بالعكس وإنكار قلوبهم ما لا يعرف إلا بالبرهان إتباعاً للأسلاف وركوناً إلى المألوف، فإنه ينافي النظر والاستكبار عن اتباع الرسول وتصديقه والالتفات إلى قوله، والأول هو العمدة في الباب ولذلك رتب عليه ثبوت الآخرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ حقاً‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ فيجازيهم، وهو في موضع الرفع ب ‏{‏جَرَمَ‏}‏ لأنه مصدر أو فعل‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين‏}‏ فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده أو اتباع الرسول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ‏}‏ القائل بعضهم على التهكم أو الوافدون عليهم أو المسلمون‏.‏ ‏{‏قَالُواْ أساطير الأولين‏}‏ أي ما تدعون نزوله، أو المنزل أساطير الأولين، وإنما سموه منزلاً على التهكم أو على الفرض أي على تقدير أنه منزل فهو أساطير الأولين لا تحقيق فيه، والقائلون قيل هم المقتسمون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة‏}‏ أي قالوا ذلك إضلالاً للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة فإن إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال‏.‏ ‏{‏وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ‏}‏ وبعض أوزار ضلال من يضلونهم وهو حصة التسبب‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال، وفائدتها الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم، إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق والمبطل‏.‏ ‏{‏أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ‏}‏ بئس شيئاً يزرونه فعلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ أي سووا منصوبات ليمكروا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏فَأَتَى الله بنيانهم مِّنَ القواعد‏}‏ فأتاها أمره من جهة العمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت‏.‏ ‏{‏فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ‏}‏ وصار سبب هلاكهم‏.‏ ‏{‏وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل‏.‏ وقيل المراد به نمروذ بن كنعان بنى الصرح ببابل سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصد أمر السماء، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ‏}‏ يذلهم أو يعذبهم بالنار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ ‏{‏وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ‏}‏ أضاف إلى نفسه استهزاء، أو حكاية لإِضافتهم زيادة في توبيخهم‏.‏ ‏{‏الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ‏}‏ تعادون المؤمنين في شأنهم‏.‏ وقرأ نافع بكسر النون بمعنى تشاقونني فإن مشاقة المؤمنين كمشاقة الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ أي الأَنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد فيشاقونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الخزي اليوم والسوء‏}‏ الذلة والعذاب‏.‏ ‏{‏عَلَى الكافرين‏}‏ وفائدة قولهم إظهار الشماتة بهم وزيادة الإِهانة، وحكايته لأن يكون لطفاً ووعظاً لمن سمعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ وقرأ حمزة بالياء‏.‏ وقرئ بإدغام في التاء وموضع الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة ‏{‏ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ‏}‏ بأن عرضوها للعذاب المخلد‏.‏ ‏{‏فَأَلْقَوُاْ السلم‏}‏ فسالموا وأخبتوا حين عاينوا الموت‏.‏ ‏{‏مَا كُنَّا‏}‏ قائلين ما كنا‏.‏ ‏{‏نَعْمَلُ مِن سُوء‏}‏ كفر وعدوان، ويجوز أن يكون تفسيراً ل ‏{‏السلم‏}‏ على أن المراد به القول الدال على الاستسلام‏.‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي فتجيبهم الملائكة بلى‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ فهو يجازيكم عليه، وقيل قوله‏:‏ ‏{‏فَأَلْقَوُاْ السلم‏}‏ إلى آخر الآية استئناف ورجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة، وعلى هذا أول من لم يجوز الكذب يومئذ ‏{‏مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء‏}‏ بأنا لم نكن في زعمنا واعتقادنا عاملين سوءاً، ويحتمل أن يكون الراد عليهم هو الله تعالى، أو أولوا العلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 40‏]‏

‏{‏فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ‏}‏ كل صنف بابها المعد له‏.‏ وقيل أبواب جهنم أصناف عذابها‏.‏ ‏{‏خالدين فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ جهنم‏.‏

‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا‏}‏ يعني المؤمنين‏.‏ ‏{‏مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا‏}‏ أي أنزل خيراً، وفي نصبه دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب، وأطبقوه على السؤال معترفين بالإِنزال على خلاف الكفرة‏.‏ روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوافد المقتسمين قالوا له ما قالوا وإذا جاء المؤمنين قالوا لهم ذلك‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ‏}‏ مكافأة في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ‏}‏ أي ولثوابهم في الآخرة خير منها، وهو عدة للذين اتقوا على قولهم، ويجوز أن يكون بما بعده حكاية لقولهم بدلاً وتفسيراً ل ‏{‏خَيْرًا‏}‏ على أنه منتصب ب ‏{‏قَالُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين‏}‏ دار الآخرة فحذفت لتقدم ذكرها وقولِه‏:‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح‏.‏ ‏{‏يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ‏}‏ من أنواع المشتهيات، وفي تقديم الظرف تنبيه على أن الإِنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين‏}‏ مثل هذا الجزاء يجزيهم وهو يؤيد الوجه الأول‏.‏

‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ‏}‏ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة ‏{‏ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ‏}‏‏.‏ وقيل فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة، أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ لا يحيقكم بعد مكروه‏.‏ ‏{‏ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ حين تبعثون فإنها معدة لكم على أعمالكم‏.‏ وقيل هذا التوفي وفاة الحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ‏.‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ما ينتظر الكفار المار ذكرهم‏.‏ ‏{‏إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة‏}‏ لقبض أرواحهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالياء‏.‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ القيامة أو العذاب المستأصل‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب‏.‏ ‏{‏فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ فأصابهم ما أصابوا‏.‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله‏}‏ بتدميرهم‏.‏ ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بكفرهم ومعاصيهم المؤدية إليه‏.‏ ‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ‏}‏ أي جزاء سيئات أعمالهم على حذف المضاف، أو تسمية الجزاء باسمها‏.‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ وأحاط بهم جزاؤه والحيق لا يستعمل إلا في الشر‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء نَّحْنُ وَلا ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ من شيء‏}‏ إنما قالوا ذلك استهزاء أو منعاً للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيها، أو إنكاراً لقبح ما أنكر عليهم من الشرك وتحريم البحائر ونحوها محتجين بأنها لو كانت مستقبحة لما شاء الله صدورها عنهم ولشاء خلافه، ملجئاً إليه لا اعتذاراً إذ لم يعتقدوا قبح أعمالهم، وفيما بعده تنبيه على الجواب عن الشبهتين‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله‏.‏ ‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ إلا الإِبلاغ الموضح للحق وهو لا يؤثر في هدى من شاء الله هداه لكنه يؤدي إليه على سبيل التوسط، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقاً بل بأسباب قدرها له، ثم بين أن البعثة أمر جرت به السنة الإِلهية في الأمم كلها سبباً لهدى من أراد اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت‏}‏ يأمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت‏.‏ ‏{‏فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله‏}‏ وفقهم للإِيمان بإرشادهم‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة‏}‏ إذ لم يوفقهم ولم يرد هداهم، وفيه تنبيه على فساد الشبهة الثانية لما فيه من الدلالة على أن تحقق الضلال وثباته بفعل الله تعالى وإرادته من حيث أنه قسم من هدى الله، وقد صرح به في الآية الأخرى‏.‏ ‏{‏فَسِيرُواْ فِى الأرض‏}‏ يا معشر قريش‏.‏ ‏{‏فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ من عاد وثمود وغيرهم لعلكم تعتبرون‏.‏

‏{‏إِن تَحْرِصْ‏}‏ يا محمد‏.‏ ‏{‏على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ‏}‏ من يريد ضلاله وهو المعني بمن حقت عليه الضلالة‏.‏ وقرأ غير الكوفيين ‏{‏لاَّ يَهِدِّي‏}‏ على البناء للمفعول وهو أبلغ‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ من ينصرهم بدفع العذاب عنهم‏.‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏ عطف على ‏{‏وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ إيذاناً بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه زيادة في البيت على فساده، ولقد رد الله عليهم أبلغ رد فقال‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ يبعثهم‏.‏ ‏{‏وَعْداً‏}‏ مصدر مؤكد لنفسه وهو ما دل عليه ‏{‏بلى‏}‏ فإن يبعث موعد من الله‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ إنجازه لامتناع الخلف في وعده، أو لأن البعث مقتضى حكمته‏.‏ ‏{‏حَقّاً‏}‏ صفة أخرى للوعد‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم يبعثون وإما لعدم علمهم بأنه من مواجب الحكمة التي جرت عادته بمراعاتها، وإما لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه، ثم إنه تعالى بين الأمرين فقال‏:‏

‏{‏لِيُبَيِّنَ لَهُمُ‏}‏ أي يبعثهم ‏{‏لِيُبَيّنَ لَهُمُ‏}‏‏.‏ ‏{‏الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ وهو الحق‏.‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين‏}‏ فيما يزعمون، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث المقتضي له من حيث الحكمة، وهو المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب ثم قال‏:‏

‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ وهو بيان إمكانية وتقريره أن تكوين الله بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد، وإلاَّ لزم التسلسل فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده، ونصب ابن عامر والكسائي ها هنا وفي «يس» فيكون عطفاً على نقول أو جواباً للأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هاجروا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏ هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون ظلمهم قريش فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة وبعضهم إلى المدينة، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل رضي الله تعالى عنهم، وقوله‏.‏ ‏{‏فِي الله‏}‏ أي في حقه ولوجهه‏.‏ ‏{‏لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةًً‏}‏ مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوئة حسنة‏.‏ ‏{‏وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ‏}‏ مما يعجل لهم في الدنيا‏.‏ وعن عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل‏.‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم، أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏الذين صَبَرُواْ‏}‏ على الشدائد كأذى الكفار ومفارقة الوطن، ومحله النصب أو الرفع على المدح‏.‏ ‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ منقطعين إلى الله مفوضين إليه الأمر كله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ‏}‏ رد لقول قريش‏:‏ الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، أي جرت السنة الإِلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشراً يوحي إليه على ألسنة الملائكة، والحكمة في ذلك وقد ذكرت في سورة «الأنعام» فإن شككتم فيه‏.‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر‏}‏ أهل الكتاب أو علماء الأخبار ليعلموكم‏.‏ ‏{‏إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكاً للدعوة العامة وقوله‏:‏ ‏{‏جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً‏}‏ معناه رسلاً إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وقيل لم يبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال‏.‏ ورد بما روي ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل صلوات الله عليه على صورته التي هو عليها مرتين ‏"‏‏.‏ وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏بالبينات والزبر‏}‏ أي أرسلناهم بالبينات والزبر أي المعجزات والكتب، كأنه جواب‏:‏ قائل قال‏:‏ بم أرسلوا‏؟‏ ويجوز أن يتعلق بما أرسلنا داخلاً في الاستثناء مع رجالاً أي‏:‏ وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات كقولك‏:‏ ما ضربت إلا زيداً بالسوط، أو صفة لهم أي رجالاً ملتبسين بالبينات، أو بيوحي على المفعولية أو الحال من القائم مقام فاعله على أن قوله فاسألوا اعتراض، أو بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت والإِلزام‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر‏}‏ أي القرآن وإنما سمي ذكراً لأنه موعظة وتنبيه‏.‏ ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ في الذكر بتوسط إنزاله إليك مما أمروا به ونهوا عنه، أو مما تشابه عليهم والتبيين أعم من أن ينص بالمقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس‏.‏ ودليل العقل‏.‏ ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ وإرادة أن يتأملوا فيه فيتنبهوا للحقائق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات‏}‏ أي المكرات السيئات وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صد أصحابه عن الإِيمان‏.‏ ‏{‏أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض‏}‏ كما خسف بقارون ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ‏}‏ أي متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم‏.‏ ‏{‏فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ‏}‏ على مخافة بأن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوفون، أو على أن ينقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأحوالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته‏.‏ روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر‏:‏ ما تقولون فيها فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال‏:‏ هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته‏:‏

تَخَوَّفَ الرَحْلُ مِنْهَا بَامكاً قَرَداً *** كَمَا تَخَوِّفَ عُود النَبْعَةِ السُّفُنُ

فقال عمر عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا‏:‏ وما ديواننا قال‏:‏ شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ حيث لا يعاجلكم بالعقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ‏}‏ استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه، وما موصولة مبهمة بيانها‏.‏ ‏{‏يَتَفَيَّؤُا ظلاله‏}‏ أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «تَروْا» بالتاء وأبو عمرو «تتفيؤ» بالتاء‏.‏ ‏{‏عَنِ اليمين والشمآئل‏}‏ عن أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها، استعارة من يمين الإِنسان وشماله، ولعل توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى كتوحيد الضمير في ظلاله وجمعه في قوله‏:‏ ‏{‏سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون‏}‏ وهما حالان من الضمير في ظلاله، والمراد من السجود الاستسلام سواء كان بالطبع أو الاختيار، يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدا حال من الظلال ‏{‏وَهُمْ داخرون‏}‏ حال من الضمير‏.‏ والمعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها، أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدر لها من التفيؤ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والأجرام في أنفسها أيضاً داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى فيها، وجمع ‏{‏داخرون‏}‏ بالواو لأن من جملتها من يعقل، أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء‏.‏ وقيل المراد ب ‏{‏اليمين والشمآئل‏}‏ يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع وشماله هو الجانب الغربي المقابل له من الأرض، فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض، وعند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ أي ينقاد انقياداً يعم الانقياد لإرادته وتأثيره طبعاً والانقياد لتكليفه وأمره طوعاً ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض وقوله‏:‏ ‏{‏مِن دَابَّةٍ‏}‏ بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كانت في أرض أو سماء‏.‏ ‏{‏والملائكة‏}‏ عطف على المبين به عطف جبريل على الملائكة للتعظيم، أو عطف المجردات على الجسمانيات، وبه احتج من قال إن الملائكة أرواح مجردة أو بيان لما في الأرض والملائكة تكرير لما في السموات وتعيين له إجلالاً وتعظيماً، أو المراد بها ملائكتها من الحفظة وغيرهم، وما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليباً للعقلاء‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن عبادته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ‏}‏ يخافونه أن يرسل عذاباً من فوقهم، أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ والجملة حال من الضمير في ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏، أو بيان له وتقرير لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته‏.‏ ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ من الطاعة والتدبير، وفيه دليل على أَنَّ الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين‏}‏ ذكر العدد مع أن المعدود يدل عليه دلالة على أن مساق النهي إليه، أو إيماءِ بأن الاثنينية تنافي الألوهية كما ذكر الواحد في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ‏}‏ للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية دون الإِلهية، أو للتنبيه على أن الوحدة من لوازم الإِلهية‏.‏ ‏{‏فإياي فارهبون‏}‏ نقل من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب وتصريحاً بالمقصود فكأنه قال‏:‏ فأنا ذلك الإِله الواحد فإياي فارهبون لا غير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُ مَا فِي السموات والأرض‏}‏ خلقاً وملكاً‏.‏ ‏{‏وَلَهُ الدين‏}‏ أي الطاعة‏.‏ ‏{‏وَاصِبًا‏}‏ لازماً لما تقرر من أنه الإله وحده والحقيق بأن يرهب منه‏.‏ وقيل ‏{‏وَاصِبًا‏}‏ من الوصب أي وله الدين ذا كلفة‏.‏ وقيل الدين الجزاء أي وله الجزاء دائماً لا ينقطع ثوابه لمن آمن وعقابه لمن كفر‏.‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ‏}‏ ولا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 66‏]‏

‏{‏وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله‏}‏ أي وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله، ‏{‏وَمَا‏}‏ شرطية أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإِخبار دون الحصول، فإن استقرار النعمة بهم يكون سبباً للإِخبار بأنها من الله لا لحصولها منه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ‏}‏ فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم‏}‏ وهم كفاركم‏.‏ ‏{‏بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ بعبادة غيره، هذا إذا كان الخطاب عاماً، فإن كان خاصاً بالمشركين كان من للبيان كأنه قال‏:‏ إذا فريق وهم أنتم، ويجوز أن تكون من للتبعيض على أن يعتبر بعضهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ‏}‏ ‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم‏}‏ من نعمة الكشف عنهم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة، أو إنكار كونها من الله تعالى‏.‏ ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ‏}‏ أمر تهديد‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أغلظ وعيده، وقرئ «فيمتعوا» مبنياً للمفعول عطفاً على ‏{‏لِيَكْفُرُواْ‏}‏، وعلى هذا جاز أن تكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد والفاء للجواب‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد فيكون الضمير ‏{‏لِمَا‏}‏، أو التي لا يعلمونها فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم وتشفع لهم على أن العائد إلى ما محذوف، أو لجهلهم على أن ما مصدرية والمجعول له محذوف للعلم به‏.‏ ‏{‏نَصِيبًا مّمّا رزقناهم‏}‏ من الزروع والأنعام‏.‏ ‏{‏تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ‏}‏ من أنها آلهة حقيقة بالتقرب إليها وهو وعيد لهم عليه‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات‏}‏ كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله‏.‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيه له من قولهم، أو تعجب منه‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ يعني البنين، ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء والنصب بالعطف على البنات على أن الجعل بمعنى الاختيار، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف‏.‏

‏{‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى‏}‏ أخبر بولادتها‏.‏ ‏{‏ظَلَّ وَجْهُهُ‏}‏ صار أو دام النهار كله‏.‏ ‏{‏مُسْوَدّا‏}‏ من الكآبة والحياء من الناس‏.‏ واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير‏.‏ ‏{‏وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ مملوء غيظاً من المرأة‏.‏

‏{‏يتوارى مِنَ القوم‏}‏ يستخفى منهم‏.‏ ‏{‏مِن سُوء مَا بُشِّرَ بِهِ‏}‏‏.‏ من سوء المبشر به عرفاً‏.‏ ‏{‏أَيُمْسِكُهُ‏}‏ محدثاً نفسه متفكراً في أن يتركه‏.‏ ‏{‏على هُونٍ‏}‏ ذل ‏{‏أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب‏}‏ أي يخفيه فيه ويئده، وتذكير الضمير للفظ ‏{‏مَا‏}‏ وقرئ بالتأنيث فيهما‏.‏ ‏{‏أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محله عندهم‏.‏

‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء‏}‏ صفة السوء وهي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت واستبقاء الذكور استظهاراً بهم وكراهة الإِناث ووأدهن خشية الإِملاق‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ المثل الأعلى‏}‏ وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الفائق والنزاهة عن صفات المخلوقين‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ المنفرد بكمال القدرة والحكمة‏.‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ‏}‏ بكفرهم ومعاصيهم‏.‏ ‏{‏مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا‏}‏ على الأرض، وإنما أضمرها من غير ذكر للدلالة الناس والدابة عليها‏.‏ ‏{‏مِن دَابَّةٍ‏}‏ قط بشؤم ظلمهم‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ كاد الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة‏.‏ وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء‏.‏ ‏{‏ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى‏}‏ سماه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ بل هلكوا أو عذبوا حينئذ لا محالة، ولا يلزم من عموم الناس وإضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلهم ظالمين حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ‏}‏ أي ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة، والاستخفاف بالرسل وأراذل الأموال‏.‏ ‏{‏وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب‏}‏ مع ذلك وهو‏.‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمُ الحسنى‏}‏ أي عند الله كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى‏}‏ وقرئ ‏{‏الكذب‏}‏ جمع كذوب صفة للألسنة‏.‏ ‏{‏لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار‏}‏ رد لكلامهم وإثبات لضده‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ‏}‏ مقدمون إلى النار من أفرطته في طلب الماء إذا قدمته‏.‏ وقرأ نافع بكسر الراء على أنه من الإِفراط في المعاصي‏.‏ وقرئ بالتشديد مفتوحاً من فرطته في طلب الماء ومكسوراً من التفريط في الطاعات‏.‏

‏{‏تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ‏}‏ فأصروا على قبائحها وكفروا بالمرسلين‏.‏ ‏{‏فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم‏}‏ أي في الدنيا، وعبر باليوم عن زمانها أو فهو وليهم حين كان يزين لهم، أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، ويجوز أن يكون الضمير لقريش أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم وهو ولي هؤلاء اليوم يغريهم ويغويهم، وإن يقدر مضاف أي فهو ولي أمثالهم، والولي القرين أو الناصر فيكون نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في القيامة‏.‏

‏{‏وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ‏}‏ للناس‏.‏ ‏{‏الذي اختلفوا فِيهِ‏}‏ من التوحيد والقدر وأحوال المعاد وأحكام الأفعال‏.‏ ‏{‏وَهُدَىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ معطوفان على محل لتبين فإنهما فعلا المنزل بخلاف التبيين‏.‏

‏{‏والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ سماع تدبر وإنصاف‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً‏}‏ دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم‏.‏ ‏{‏نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ‏}‏ استئناف لبيان العبرة، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا للفظ وأنثه في سورة «المؤمنين» للمعنى، فإن ‏{‏الأنعام‏}‏ اسم جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأكياس، ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو لواحده أو له على المعنى، فإن المراد به الجنس‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب ‏{‏نُّسْقِيكُمْ‏}‏ بالفتح هنا وفي «المؤمنين»‏.‏ ‏{‏مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا‏}‏ فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً، ولعله إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن، لأنهما لا يتكونان في الكرش بل الكبد يجذب صفارة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقي ثفله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها هضماً ثانياً فيحدث أخلاطاً أربعة معها مائية، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها فيجري إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم، ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها، فيندفع الزائد أولاً إلى الرحم لأجل الجنين فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض فيصير لبناً، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته، و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية كقولك‏:‏ سقيت من الحوض، لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإِسقاء وهي متعلقة ب ‏{‏نُّسْقِيكُمْ‏}‏ أو حال من ‏{‏لَّبَنًا‏}‏ قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة‏.‏ ‏{‏خَالِصًا‏}‏ صافياً لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث، أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه‏.‏ ‏{‏سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ‏}‏ سهل المرور في حلقهم، وقرئ «سِّيغاً» بالتشديد والتخفيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِن ثمرات النخيل والأعناب‏}‏ متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وقوله‏:‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا‏}‏ استئناف لبيان الإِسقاء أو ب ‏{‏تَتَّخِذُونَ‏}‏، ومنه تكرير للظرف تأكيداً أو خبر لمحذوف صفته ‏{‏تَتَّخِذُونَ‏}‏، أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه، وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوف الذي هو العصير، أو لأن ال ‏{‏ثمرات‏}‏ بمعنى الثمر وال ‏{‏سكر‏}‏ مصدر سمي به الخمر‏.‏ ‏{‏وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ كالتمر والزبيب والدبس والخل، والآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة‏.‏ وقيل ال ‏{‏سكر‏}‏ النبيذ وقيل الطعم قال‏:‏

جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سُكْراً *** أي تنقلت بأعراضهم‏.‏ وقيل ما يسد الجوع من السكر فيكون الرزق ما يحصل من أثمانه‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل في الآيات‏.‏

‏{‏وأوحى رَبُّكَ إلى النحل‏}‏ ألهمها وقذف في قلوبها، وقرئ ‏{‏إلى النحل‏}‏ بفتحتين‏.‏ ‏{‏أَنِ اتخذي‏}‏ بأن اتخذي ويجوز أن تكون ‏{‏أن‏}‏ مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول، وتأنيث الضمير على المعنى فإن النحل مذكر‏.‏ ‏{‏مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ‏}‏ ذكر بحرف التبعيض لأنها لا تبني في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من كرم أو سقف، ولا في كل مكان منها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببناء الإنسان، لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة التي لا يقوى عليها أحذق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة، ولعل ذكره للتنبيه على ذلك وقرئ ‏{‏بُيُوتًا‏}‏ بكسر الباء، وقرأ ابن عامر وأبو بكر ‏{‏يَعْرُِشُونَ‏}‏ بضم الراء‏.‏

‏{‏ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات‏}‏ من كل ثمرة تشتهينها مرها وحلوها‏.‏ ‏{‏فاسلكي‏}‏ ما أكلت‏.‏ ‏{‏سُبُلَ رَبّكِ‏}‏ في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك، أو ‏{‏فاسلكي‏}‏ الطرق التي ألهمك في عمل العسل، أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك ‏{‏سُبُلَ رَبّكِ‏}‏ لا تتوعر عليك‏.‏ ولا تلتبس‏.‏ ‏{‏ذُلُلاً‏}‏ جمع ذلول وهي حال من السبل، أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك، أو من الضمير في أسلكي أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به‏.‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا‏}‏ كأنه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس، لأنه محل الإِنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم‏.‏ ‏{‏شَرَابٌ‏}‏ يعني العسل لأنه مما يشرب، واحتج به من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في بطنها عسلاً، ثم تقئ ادخاراً للشتاء، ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاء طلية حلوة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار، وتضعها في بيوتها ادخاراً فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل فسر البطون بالأفواه‏.‏

‏{‏مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ‏}‏ أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف سن النحل والفصل‏.‏ ‏{‏فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ‏}‏ إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية، أو مع غيره كما في سائر الأمراض، إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه، مع أن التنكير فيه مشعر بالتبعيض، ويجوز أن يكون للتعظيم‏.‏ وعن قتادة أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أخي يشتكي بطنه فقال‏:‏ «اسقه العسل» فذهب ثم رجع فقال‏:‏ قد سقيته فما نفع فقال‏:‏ «اذهب واسقه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطن أخيك» فسقاه فشفاه الله تعالى فبرأ فكأنما أنشط من عقال‏.‏ وقيل الضمير للقرآن أو لما بين الله من أحوال النحل‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر علم قطعاً أنه لا بد له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه‏.‏

‏{‏والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم‏}‏ بآجال مختلفة‏.‏ ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ‏}‏ يعاد‏.‏ ‏{‏إلى أَرْذَلِ العمر‏}‏ أخسه يعني الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل‏.‏ وقيل هو خمس وتسعون سنة وقيل خمس وسبعون‏.‏ ‏{‏لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا‏}‏ ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية في النسيان وسوء الفهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ‏}‏ بمقادير أعماركم‏.‏ ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ يميت الشاب النشيط ويبقى الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدَّل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق‏}‏ فمنكم غني ومنكم فقير، ومنكم موال يتولون رزقهم ورزق غيرهم ومنكم مماليك حالهم على خلاف ذلك‏.‏ ‏{‏فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدّي رِزْقِهِمْ‏}‏ بمعطي رزقهم‏.‏ ‏{‏على مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ على مماليكهم فإنما يردون عليهم رزقهم الذي جعله الله في أيديهم‏.‏ ‏{‏فَهُمْ فِيهِ سَوَآء‏}‏ فالموالي والمماليك سواء في أن الله رزقهم، فالجملة لازمة للجملة المنفية أو مقررة لها، ويجوز أن تكون واقعة موقع الجواب كأنه قيل‏:‏ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا في الرزق، على أنه رد وإنكار على المشركين فإنهم يشركون بالله بعض مخلوقاته في الألوهية ولا يرضون أن يشاركهم عبيدهم‏.‏ فيما أنعم الله عليهم فيساورهم فيه‏.‏ ‏{‏أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ‏}‏ حيث يتخذون له شركاء، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم ويجحدوا أنه من عند الله، أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعدما أنعم الله عليهم بإيضاحهم، والباء لتضمن الجحود معنى الكفر‏.‏ وقرأ أبو بكر «تجحدون» بالتاء لقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ و‏{‏فَضَّلَ بَعْضَكُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ أي من جنسكم لتأنسوا بها ولتكون أولادكم مثلكم‏.‏ وقيل هو خلق حواء من آدم‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً‏}‏ وأولاد أولاد أو بنات، فإن الحافد هو المسرع في الخدمة والبنات يخدمن في البيوت أتم خدمة‏.‏ وقيل هم الأختان على البنات‏.‏ وقيل الربائب ويجوز أن يراد بها البنون أنفسهم والعطف لتغاير الوصفين‏.‏ ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ من اللذائذ أو الحلالات و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض فإن المرزوق في الدنيا أنموذج منها‏.‏ ‏{‏أفبالباطل يُؤْمِنُونَ‏}‏ وهو أن الأصنام تنفعهم، أو أن من الطيبات ما يحرم كالبحائر والسوائب‏.‏ ‏{‏وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ‏}‏ حيث أضافوا نعمه إلى الأصنام، أو حرموا ما أحل الله لهم، وتقديم الصلة على الفعل إما للاهتمام أو لإِيهام التخصيص مبالغة، أو للمحافظة على الفواصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض شَيْئاً‏}‏ من مطر ونبات، و‏{‏رِزْقاً‏}‏ إن جعلته مصدراً فشيئاً منصوب به وإلا فبدل منه‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ أن يتملكوه أو لا استطاعة لهم أصلاً، وجمع الضمير فيه وتوحيده في ‏{‏لاَ يَمْلِكُ‏}‏ لأن ‏{‏مَا‏}‏ مفرد في معنى الألهة، ويجوز أن يعود إلى الكفار أي ولا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون شيئاً من ذلك فكيف بالجماد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال‏}‏ فلا تجعلوا له مثلاً تشركونه به، أو تقيسونه عليه فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ‏}‏ فساد ما تعولون عليه من القياس على أن عبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من عبادته وعظم جرمكم فيما تفعلون‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك ولو علمتموه لما جرأتم عليه فهو عليم للنهي، أو أنه يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيكم دون نصه، ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال فإنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون‏.‏ ثم علمهم كيف يضرب فضرب مثلاً لنفسه ولمن عبد دونه

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْرًا هَلْ يستوُون‏}‏ مثل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرف رأساً ومثل نفسه بالحر المالك الذي رزقه الله مالاً كثيراً فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف يشاء، واحتج بامتناع الاشتراك والتسوية بينهما مع تشاركهما في الجنسية والمخلوقية على امتناع التسوية بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات وبين الله الغني القادر على الإِطلاق‏.‏ وقيل هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق، وتقييد العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر فإنه أيضاً عبد الله وبسلب القدرة للتمييز عن المكاتب والمأذون وجعله قسيماً للمالك المتصرف يدل على أن المملوك لا يملك، والأظهر أن ‏{‏مِنْ‏}‏ نكرة موصوفة ليطابق ‏{‏عَبْداً‏}‏، وجمع الضمير في ‏{‏يَسْتَوُونَ‏}‏ لأنه للجنسين فإن المعنى هل يستوي الأحرار والعبيد‏؟‏‏.‏ ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ كل الحمد له، لا يستحقه غيره فضلاً عن العبادة لأنه مولى النعم كلها‏.‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيضيفون نعمة إلى غيره ويعبدونه لأجلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ‏}‏ ولد أخرس لا يَفْهمُ وَلا يُفْهِمُ‏.‏ ‏{‏لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ‏}‏ من الصنائع والتدابير لنقصان عقله‏.‏ ‏{‏وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ‏}‏ عيال وثقل على من يلي أمره‏.‏ ‏{‏أَيْنَمَا يُوَجّههُّ‏}‏ حيثما يرسله مولاه في أمر، وقرئ ‏{‏يوجه‏}‏ على البناء للمفعول و‏{‏يوجه‏}‏ بمعنى يتوجه كقوله أينما أوجه ألق سعداً وتوجه بلفظ الماضي‏.‏ ‏{‏لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ‏}‏ ينجح وكفاية مهم‏.‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ ومن هو فهم منطيق ذو كفاية ورشد ينفع الناس بحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل‏.‏ ‏{‏وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ وهو في نفسه على طريق مستقيم لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، وإنما قابل تلك الصفات بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلهما، وهذا تمثيل ثان ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام لإِبطال المشاركة بينه وبينها أو للمؤمن والكافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض‏}‏ يختص به علمه لا يعلمه غيره، وهو ما غاب فيهما عن العباد بأن لم يكن محسوساً ولم يدل عليه محسوس‏.‏ وقيل يوم القيامة فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض‏.‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ الساعة‏}‏ وما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كَلَمْحِ البصر‏}‏ إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها‏.‏ ‏{‏أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ أو أمرها أقرب منه بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة بل في الآن الذي تبتدئ فيه، فإنه تعالى يحيي الخلائق دفعة وما يوجد دفعة كان في آن، و‏{‏أَوْ‏}‏ للتخيير أو بمعنى بل‏.‏ وقيل معناه أن قيام الساعة وإن تراخى فهو عند الله كالشيء الذي تقولون فيه هو كلمح البصر أو هو أقرب مبالغة في استقرابه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فيقدر أن يحيي الخلائق دفعة كما قدر أن أحياهم متدرجاً، ثم دل على قدرته فقال‏:‏ ‏{‏والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم‏}‏ وقرأ الكسائي بكسر الهمزة على أنه لغة أو إتباع لما قبلها، وحمزة بكسرها وكسر الميم والهاء مزيدة مثلها في أهراق‏.‏ ‏{‏لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ جهالاً مستصحبين جهل الجمادية‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ أداة تتعلمون بها فتحسون بمشاعركم جزئيات الأشياء فتدركونها ثم تتنبهون بقلوبكم لمشاركات ومباينات بينها بتكرر الإِحساس حتى تتحصل لكم العلوم البديهية، وتتمكنوا من تحصيل المعالم الكسبية بالنظر فيها‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ كي تعرفوا ما أنعم عليكم طوراً بعد طور فتشكروه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير‏}‏ قرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب بالتاء على أنه خطاب للعامة‏.‏ ‏{‏مسخرات‏}‏ مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المؤاتية له‏.‏ ‏{‏فِي جَوّ السمآء‏}‏ في الهواء المتباعد من الأرض‏.‏ ‏{‏مَا يُمْسِكُهُنَّ‏}‏ فيه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الله‏}‏ فإن ثقل جسدها يقتضي سقوطها ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ‏}‏ تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة يمكن معها الطيران، وخلق الجو بحيث يمكن الطيران فيه وإمساكها في الهواء على خلاف طبعها‏.‏ ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لأنهم هم المنتفعون بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا‏}‏ موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتكم كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر، فعل بمعنى مفعول‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا‏}‏ هي القباب المتخذة من الأدم، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث إنها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها‏.‏ ‏{‏تَسْتَخِفُّونَهَا‏}‏ تجدونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها‏.‏ ‏{‏يَوْمَ ظَعْنِكُمْ‏}‏ وقت ترحالكم‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ إِقََامَتِكُمْ‏}‏ ووضعها أو ضربها وقت الحضر أو النزول‏.‏ وقرأ الحجازيان والبصريان «يَوْمَ ظَعْنِكُمْ» بالفتح وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا‏}‏ الصوف للضائنة والوبر للإبل والشعر للمعز، وإضافتها إلى ضمير ‏{‏الأنعام‏}‏ لأنها من جملتها‏.‏ ‏{‏أَثَاثاً‏}‏ ما يلبس ويفرش‏.‏ ‏{‏ومتاعا‏}‏ ما يتجر به‏.‏ ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ إلى مدة من الزمان فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة، أو إلى حين، مماتكم أو إلى أن تقضوا منه أوطاركم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ‏}‏ من الشجر والجبل والأبنية وغيرها‏.‏ ‏{‏ظلالا‏}‏ تتقون بها حر الشمس‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا‏}‏ مواضع تسكنون بها من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها جمع كن‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ‏}‏ ثياباً من الصوف والكتان والقطن وغيرها‏.‏ ‏{‏تَقِيكُمُ الحر‏}‏ خصه بالذكر اكتفاء بأحد الضدين أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم‏.‏ ‏{‏وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ‏}‏ يعني الدروع والجواشن، والسربال يعم كل ما يلبس‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ كإتمام هذه النعم التي تقدمت‏.‏ ‏{‏يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ أي تنظرون في نعمه فتؤمنون به وتنقادون لحكمه‏.‏ وقرئ «تُسْلِمُونَ» من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب، أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك‏.‏ وقيل ‏{‏تُسْلِمُونَ‏}‏ من الجراح بلبس الدروع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ أعرضوا ولم يقبلوا منك‏.‏ ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين‏}‏ فلا يضرك فإنما عليك البلاغ وقد بلغت، وهذا من إقامة السبب مقام المسبب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله‏}‏ أي يعرف المشركون نعمة الله التي عددها عليهم وغيرها حيث يعترفون بها وبأنها من الله تعالى‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُنكِرُونَهَا‏}‏ بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم إنها بشفاعة آلهتنا، أو بسبب كذا أو بأعراضهم عن أداء حقوقها‏.‏ وقيل نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عرفوها بالمعجزات ثم أنكروها عناداً ومعنى ثم استبعاد الإنكار بعد المعرفة‏.‏ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون‏}‏ الجاحدون عناداً، وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان العقل أو التفريط في النظر، أو لم تقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف وإما لأنه يقام مقام الكل كما في قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏